عاصمة صينية غير بكين

قد تكون بكين عاصمة الصين الحالية، لكن البلاد كانت تحكم لعدة قرون من نانجينغ، تلك المدينة التاريخية التي تقع على ضفتي نهر يانغتسي، والتي تعرف الآن كواحدة من العواصم الأربع العظمى القديمة للصين.

لا يزال بالإمكان إيجاد قرون من المفاخر والهيبة متناثرة بين ناطحات السحاب العصرية ـ إذا ما عرفت أين تبحث عنها.

في الصين، ترمز السلحفاة إلى العمر المديد

كانت محطتي الأولى هي السفوح الجنوبية لجبل هوانغشان، أو "الجبل الأرجواني"، الواقعة على مسافة 16 كيلو متر من مركز المدينة. يوجد هنا ضريح أول إمبراطور لسلالة "مينغ"، تشو يوان تشانغ، حيث دفن وزوجته.

بعد إيقاع الهزيمة بالمنغوليين عام 1368، قرر تشو اعتبار نانجينغ عاصمة له نظراً لكبر مساحتها وموقعها التجاري الملائم.

كانت المدينة في السابق، ولعدة مرات، هي العاصمة خلال التاريخ العاصف لممالك وسلالات الصين، غير أن تشو كان الإمبراطور الذي عزز من مكانة المدينة طوال عهد سلالة مينغ (بين عامي 1368 و1664).

محاربون منحوتون من الحجر خارج ضريح سلالة مينغ

صدر الصورة، Eva Rammeloo

التعليق على الصورة، محاربون منحوتون من الحجر خارج ضريح سلالة مينغ

وحسب العادات المتبعة في ذلك الزمن، أعطى تشو تفويضاً لبناء الضريح المثير للإعجاب بأجنحته وقصوره ليعبر عن ازدهار واستقرار إمبراطوريته. استغرق بناؤه أكثر من 30 عاماً، توفى أثناءها تشو نفسه وجرى دفنه في الموقع عام 1398.

تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه

شرح معمق لقصة بارزة من أخباراليوم، لمساعدتك على فهم أهم الأحداث حولك وأثرها على حياتك

الحلقات

يستحق الانتباه نهاية

زرت الضريح في سبتمبر / أيلول وكانت الرطوبة عالية. صعدت ممراً على التل محاطاً بنباتات ساحرة وأشجار متدلية. وعلى جانبي الممشى كان هناك تماثيل لمحاربين من الحجر وكأنهم يحرسون شيئاً. ترى بجوارهم فيلة وأسوداً وأحصنة بأحجامها الطبيعية، منحوتة من صخور كبيرة.

يتألف الضريح من عدة أجنحة وبوابات ونُصب تذكارية موصولة ببعضها ومزينة بأعمدة وبوابات ومعالم أثرية منحوتة، وقد طُليت أسطح المنازل الجميلة بألوان حمراء وزرقاء وذهبية لامعة. أما الأسقف فقد تم تزيينها بشكل خيالي. وكانت إحدى أكثر النُصب التذكارية اللافتة للنظر عبارة عن مسلة منحوتة من الحجر، حُملت على ظهر سلحفاة حجرية عملاقة في موقع جرى ترميمه مؤخراً في "جناح تشيفانغتشينغ" بالقرب من مدخل الضريح. ترمز السلحفاة في الصين لعمر مديد.

يعرض المتحف الموجود في الموقع مواداً صُنعت بإتقان تم اكتشافها في المكان نفسه. وتشمل هذه المواد أمشاطاً خشبية ودبابيس للشعر وسكاكين وأواني خزفية. ومع أنه لم يتم فعلياً حفر قبر تشو، لكن العلماء الصينيين يعتقدون بوجود متاهات من ممرات مليئة بالكنوز تقع تحت سطح الأرض بانتظار الكشف عن خباياها.

ضريح "تشياولينغ" على سفح جبل "تشونغشان"

صدر الصورة، traveler1116iStock

التعليق على الصورة، ضريح "تشياولينغ" على سفح جبل "تشونغشان"

يمكن لمتاهات "نانجينغ" الخانقة أن تحير أي متطفل

كانت التركة الكبرى الأخرى لـتشو هي تشييد سور حول نانجينغ، الهدف منه حماية عاصمة الإمبراطورية. صُنع الملاط المستعمل للبناء من خليط من الجير والمعجون وعجينة الأرز اللزجة ـ وهي مواد أثبتت نجاحها الفعال؛ فبعد ستة قرون من الزمن، لا زال أكثر الطوب في مكانه.

وإلى الغرب قليلاً من وسط المدينة تقع بوابة تشونغهوا، أضخم بوابات السور الأصلية المتألفة من 13 بوابة. إنها عبارة عن مجمع دفاعي ضخم يتكون من ساحات ومتاريس. وعلى جوانب السور، كان يوجد 13 كهفاً تسع لثلاثة آلاف جندي في حال تعرض المدينة لأي هجوم. وكان من المفترض أن ينتظر الجنود حتى حلول الظلام لكي يدخل العدو أول قسم من المجمع، ثم تُنزل البوابة ليُحاصر الخصوم في الساحات، حيث يهجم عليهم جنود نانجينغ ليبيدوهم.

ينتصب جندي منحوت من الحجر أعلى "بوابة تشونغهوا"

صدر الصورة، China PhotosGetty

التعليق على الصورة، ينتصب جندي منحوت من الحجر أعلى "بوابة تشونغهوا"

تبدو الكهوف خانقة ولا تلائم من يعانون من رهاب الأماكن المغلقة، لذا أسرعت بالخروج عائداً أدراجي حيث يوجد الضياء وصعدت أعلى السور. يوفر المكان العالي إطلالة رائعة على الأسوار الواسعة ومنها إلى أسطح المنازل الصينية التقليدية المختبئة بجوار مواقع البناء غير المرتبة وعمارات الشقق العصرية البشعة ـ التي تعد دليلا على التحديث السريع لمدينة نانجينغ.

حيث يرفرف بفخر العلم الوطني الصيني

انتقلت العاصمة إلى بكين خلال عهد سلالة تشينغ (1664ـ1911)، لكنها عادت ثانية إلى نانجينغ عام 1912، عند سقوط الإمبراطور وتولي السلطة من قبل الجمهوري الوطني سون يات سين. اليوم، لا يزال العلم الوطني يرفرف بفخر خلف بوابات القصر الجمهوري القديم لنانجينغ، وهو رمز لا يظهر علناً في أي مكان آخر في البلد الشيوعي حالياً.

منحوتات صخرية بشعة خارج ضريح "سون يات سين"

صدر الصورة، Juan LuisFlickrCC BYSA 2.0

التعليق على الصورة، منحوتات صخرية بشعة خارج ضريح "سون يات سين"

عندما تفقدت المكان، كانت الآلات الكاتبة القديمة لا تزال مبعثرة في المكاتب الحكومية، والوثائق الباهتة معلقة خلف واجهات العرض الزجاجية. تخيلت سون يات سين وهو يتجول مع المقربين منه في الحديقة الصينية الأنيقة بجسرها النموذجي المتعرج وبركة الأسماك.

كان زمناً يعج بالفوضى، بعد تأسيس الجمهورية. أُعلنت بكين، مرة أخرى، عاصمة للبلاد ولفترة قصيرة، لكن خليفة سين، تشانغ كاي شيك، أعاد تسمية نانجينغ عاصمة للبلاد عام 1927. على كل حال، إنها مدينة الأمجاد التي حكمت منها سلالة مينغ لقرابة ستة قرون واضعة أسس بناء الصين الحديثة.

ولتأكيد هيبة نانجينغ، كانت تركة تشانغ هي ضريح "سين"، الذي وافته المنية عام 1925. يبعد الضريح فقط مسافة 10 دقائق سيراً على الأقدام من ضريح تشو، ويُعد من بين أكثر المناطق الشهيرة التي يأتي إليها السائحون في المدينة. يُزعم أن الكومينتانغ، الحركة الثورية التي كان ينتمي إليها سين وتشانغ، أنفقت 1.5 مليون يوان صيني على الموقع ـ ويظهر أن تلك المزاعم حقيقية.

قادتني مدارج لا تُعد ولا تحصى إلى أعلى التلة، حيث موقع التابوت الحجري بشكل سون يات سين. كان هذا بحد ذاته مثيراً للاعجاب، مثل المنظر نفسه. في الداخل، كان السقف الأزرق البراق للجناح مزيناً بنجمة ذهبية ـ تلك هي ألوان الكومينتانغ. وكان هذا أكثر عصرية من ضريح تشو الذي بدا، عبر قرون من الزمن، وكأنه أصبح جزءاً من الجبل.

وبعد المشي وسط أثار تلك القرون من التاريخ، شعرت وكأني قطعت دورة كاملة، بدءا من أول رجل أعطى نانجينغ لقب العاصمة ووصولا إلى آخر رجل أعاد اللقب إليها، ويرقد كلاهما بسلام، هنا بجوار بعضهما.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Travel.