تشكل حالات الانتحار على الصعيد الإنساني نزعة دفينة عميقة الغور، يعبّر عنها البعض عبر الفعل الواقعي. لكن هناك خصوصية لكل مجتمع تتجلى حتى في مثل هذه النهايات المأساوية للحياة. ففي المجتمع الياباني ينتحر اليابانيون بطرق خاصة صارت لها مصطلحات عالمية معروفة منها: طريقة "الهاراكيري" التي كان يقدم عليها الساموراي (المحاربون أيام الإقطاع في اليابان) حيث يقومون بشق بطونهم بسيوف قصيرة في سبيل اغراض يعتقدون بنبلها وسموها تستحق منهم بذل أرواحهم بسخاء.

لكن هذه الصور التي لا تخلو من قدر كبير من الشجاعة استبدلت في السنوات الأخيرة بحالات انتحار بين اليابانيين لا ترتبط بأسباب وطنية، بل تعود لأسباب اقتصادية واجتماعية. ويعرف هذا النوع من الانتحار لدى علماء الاجتماع بالانتحار "الفوضوي" الذي عادة ما يحصل إبان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويكون وليد الانفعال والغضب أو الإحباط الذي يعيشه العاطل عن العمل. وأصبح هذا النوع من الانتحار ظاهرة مقلقة في السنوات القليلة الماضية في اليابان بعد تسجيل البطالة فيها معدلات غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، لأنه بالنسبة لبعض هؤلاء العاطلين عن العمل يمثل وسيلة لإنهاء معاناة نفسية قاسية، وهم الذي نشأوا منذ طفولتهم على تقديس العمل.

ووفقا لبيانات عام 2000، بلغ معدل البطالة في اليابان 4.7بالمائة من اجمالي قوة العمل اليابانية، وتجاوز عدد العاطلين عن العمل 3.1ملايين عامل. وارجعت دراسة لمعهد ابحاث فوجي أسباب ارتفاع معدلات البطالة إلى تباطؤ الاقتصاد الياباني، إضافة إلى شروع الشركات اليابانية ـ بدافع من سعيها إلى تعزيز قدرتها التنافسية ـ في اتخاذ خطوات لتقليل تكاليف التشغيل، ليس فقط من خلال تقليص قوة العمل؛ بل ايضا من خلال توظيف العمال بعقود عمل قصيرة. وكنتيجة مباشرة لهذه المتغيرات في بيئة العمل غدت اليابان تحتل المرتبة الأولى عالميا في عدد حالات الانتحار، حيث بلغت في عام 2000نحو 30ألف حالة.

وتشير تلك الدراسة إلى ان العاملين الذين يقدمون على الانتحار في اليابان نوعان: النوع الأول من خسر عمله بعد أكثر من ثلاثة عقود، ولم يتحمل ان يستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه عاطلاً عن العمل، فيلجأ للانتحار، والثاني من يعمل أكثر من طاقته لئلا يخسر وظيفته، وهذا الأمر يولد لديه ضغوطاً نفسية كبيرة تصل به إلى مرحلة ينهار فيها وينتحر.

وخلال رحلة عمل قمت بها إلى اليابان في صيف عام 1998قرأت تحقيقا عن هذه الظاهرة نشرته صحيفة "التايمز اليابانية" في عددها الصادر في 1998/7/1م، وجاء فيه: ان نحو 50بالمائة من حوادث الانتحار المسجلة في مقاطعة كانتو اليابانية خلال عام 1997، والتي بلغت 94حالة، جاءت نتيجة لأسباب لها علاقة بحالة الركود الاقتصادي في اليابان وكان ابرز ما لفت نظري في التحقيق إشارته الى تعدد حوادث الانتحار ـ المرتبط بالانكماش الاقتصادي ـ التي يمثل فيها الانتحار أعلى مراتب الإيثار والتضحية.

ومن تلك الحالات: اقدام مدير احدى الشركات اليابانية المتخصصة في تصنيع قضبان السكك الحديدية على الانتحار، بشنق نفسه في أحد مخازن الشركة في نهاية شهر ابريل من العام نفسه. وما يلفت الانتباه في هذه الحادثة المأساوية، ان بطلها ترك رسالة لزملائه في الشركة ذكر فيها انه يأمل بأن تساهم قيمة وثيقة التأمين على حياته في حل مشاكل الشركة المالية.

واختتم رسالته بالقول: "ارجو المعذرة.. لم اجد طريقة أخرى لمساعدة الشركة". وأشارت الصحيفة إلى ان هذه الشركة الصغيرة عانت من عجزها عن تسديد ديون مستحقة للبنوك، وصلت قيمتها إلى نحو مليون دولار، تراكمت نتيجة لتراجع مبيعاتها في اليابان، ودول جنوب شرق آسيار. ولعل المؤسف في هذه القصة ان الشركة لم تستفد من انتحار مديرها كما خطط، فبعد مدة قصيرة من وفاته أعلنت الشركة إفلاسها.

وباعتقادي، ان هذه الواقعة توضح ان الموظف الياباني ـ وعلى وجه التحديد من يشغل منصبا قياديا ـ يعتبر تعثر الشركة فشلا لا يقل مرارة عن فقدان اسباب الحياة، كما انها تظهر تميزه بدرجة عالية من الانتماء والولاء للشركة التي يعمل فيها، مما يجعل مصلحة العمل تمثل الدرجة الأسمى بالنسبة له، بل انها تصل إلى الحد الذي يجعله يقدم مصلحة العمل على حياته! وبمثل هذه النماذج تحقق لليابان ما تحقق من تقدم مذهل في فترة زمنية وجيزة.

هذه الصور تدفع إلى الواجهة مقارنة بيننا وبين هؤلاء، فأتساءل: ما مدى درجة احترام العمل في بيئتنا؟ وهل تصل إلى الحد الذي يؤثر فيه الموظف مصلحة العمل على مصلحته الشخصية إلى حد التضحية بالوقت وليس بالنفس؟ اسئلة ليس المهم الاجابة عليها.. بقدر أهمية التفكير في مضمونها، ومن ثم العمل الجاد على بلورة وغرس حزمة قيم في نفوس الأجيال القادمة محورها: ان العمل قد يكون عبادة وان مصلحة العمل يجب ان تقدم على المصلحة الشخصية عندما تتعارض المصلحتان.